تقول بثينة الخليل خلال زيارتي إلى حي “بلاط” التاريخي الواقع في مدينة اسطنبول التركية، و دخولي إلى أحد محال “الأنتيك” المتواجدة بكثرة في هذا الحي، أثار انتباهي مجموعة تحف خشبية شرقية ذات نقوش عجمية، ومنها نافذة خشبية صغيرة ذات نقوش نباتية حمراء وخضراء موشحة باللون الذهبي والأزرق الفيروزي.
مشاعر حنين وذكريات أعادت ترتيبها بداخلي هذه القطعة الخشبية، فبت أستذكر لقاء قطعة خشبية بذات المواصفات في قصر العظم الواقع بمدينة دمشق القديمة. وسرعان ما جعلتني هذه المشاعر أحمل هذه القطعة بشوق، وأطلب من صاحب المحل أن يلتقط لي صورة تذكارية معها.
القطعة الخشبية كانت منقوشة بما يُعرف بـ ” العجمي” أو “الدمشقي. القطعة الخشبية ذات النقوشات الشرقية أثارت فضولي للرجوع إلى عدة مصادر تاريخية لجمع بعض المعلومات عنها، ابتداءً من معنى اسمها “العجمي” هو اسم لفن زخرفي دمشقي عريق يعد من أهم الفنون المتواجدة في التراث السوري، أُطلق عليه في عهد الدولة الأموية بـ “الرسم النباتي” لأن ألوانه كانت مستوحاة من النباتات.
ومع تسجيله في لائحة التراث اللامادي لدى اليونيسكو، اجتهد بعض الباحثين والمهتمين بالتراث فأطلقوا عليه اسم “دهان دمشق”لتُثَبَّت التسمية هكذا لدى اليونيسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والثافة والعلوم، في حين فضل آخرون تسميته بالرسم النباتي والهندسي على الخشب.
تاريخ هذه المهنة الدمشقية العريقة:
التاريخ يقول أن هذه المهنة انطلقت من دمشق إحدى أقدم المدن المأهولة وأقدم عاصمة مؤهولة في العالم، ومع الفتح الإسلامي، تأثرت توجهات الفنان والحرفي. فمع تحريم رسم الأشخاص والأرواح والتجسيد، أصبح أمام الحرفي ثلاثة خيارات فقط، هي الرسم النباتي على الخشب والرسم الهندسي إضافة لرسم الخط.
وعندما يتم جمع الخيارات الثلاثة في فن واحد، يبدع الحرفي الدمشقي، ويرسم على سقف قبة الصخرة في المسجد الأقصى في فترة حكم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك. ومن ثم رسم بهذا الفن على جدران مسجد بني أمية في دمشق.
أما حديثاً، فقد نشر هذه المهنة في سورية، محمد أديب أوضه باشي، الذي ورثها عن أسرته وجده والذي يعتبر “شيخ الكار” منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وفي لبنان انتشرت من خلال قسم من أولاده الذين سكنوا وعملوا في لبنان، ومن ثم انتشرت في بلدان الخليج العربي من خلال أحفاده، وكذلك الحال في أوروبا .
وكل من يعمل في “العجمي” هم أقارب، حيث يتعلم الحرفة الابن وابن العم والخال.. مثل عائلات “محفوظ” و”زقزوق” و”الخياط” وغيرها من الأسر الدمشقية، كذلك كل من يعمل بها في بلدان العالم هم “شوام” .لذلك نرى العجمي أنه امتلك شهرة عالمية والذي يثبت ذلك وجوده في معظم متاحف العالم منها متحف “ميتروبوليتان” في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يحوي غرفة دمشقية بتقنية “العجمي”.
لماذا هذا الفن الدمشقي مسمى “العجمي” ؟
التاريخ يقول أن سبب التسمية يعود إلى الصُناع الأوائل الذين قدموا من إيران الى دمشق بعد الفتوحات الإسلامية ليعلموها لأبناء دمشق والذين تفوقوا عليهم بها.
بعض المراجع التاريخية تقول إن سبب التسمية هو تمازج الزخارف بالفن الفارسي والعثماني والمغربي وماجاء في العصور القديمة من يونانية وإغريقية.
وما يميز هذا الفن الراقي أن الألوان المستخدمة فيه هي الألوان المستوحاة من الطبيعة، أما الزخارف النافرة فتُحضر من مواد ترابية إضافة للصمغ العربي للحصول على مادة شديدة اللزوجة يتم تنزيلها بفرشاة الرسم على الزخارف، بعد وضع التصاميم على الخشب، وتبرز جماليتها بحسب إبداع الحرفي ومقدرته على محاكاة الاتجاهات الهندسية، والذي يشهد على إبداعات هذا الفن ، ما سبق ذكره أعلاه إضافة إلى قاعات الاستقبال في البيوت الشامية القديمة.